فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي}.
واحد يؤدّي عن جماعة، وكذلك يقال للمرأة هي عدوّ الله وعدوّة الله؛ حكاهما الفراء.
قال علي بن سليمان: من قال عدوّة الله وأثبت الهاء قال هي بمعنى معادية، ومن قال عدوّ للمؤنث والجمع جعله بمعنى النسب.
ووصف الجماد بالعداوة بمعنى أنهم عدوّ لي إن عبدتهم يوم القيامة؛ كما قال: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82].
وقال الفراء: هو من المقلوب؛ مجازه فإني عدوّ لهم لأن من عاديته عاداك.
ثم قال: {إِلاَّ رَبَّ العالمين} قال الكلبيّ: أي إلا من عبد ربّ العالمين؛ إلا عابد رب العالمين؛ فحذف المضاف.
قال أبو إسحاق الزجاج: قال النحويون هو استثناء ليس من الأوّل؛ وأجاز أبو إسحاق أن يكون من الأوّل على أنهم كانوا يعبدون الله عز وجل ويعبدون معه الأصنام، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله.
وتأوّله الفراء على الأصنام وحدها والمعنى عنده: فإنهم لو عبدتُهم عدوّ لي يوم القيامة؛ على ما ذكرنا.
وقال الجرجاني: تقديره: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين فإنهم عدوّ لي.
وإلا بمعنى دون وسوى؛ كقوله: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] أي دون الموتة الأولى.
قوله تعالى: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أي يرشدني إلى الدين.
{والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي يرزقني.
ودخول {هو} تنبيه على أن غيره لا يُطعم ولا يسَقي؛ كما تقول: زيد هو الذي فعل كذا؛ أي لم يفعله غيره.
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} قال: {مَرِضْتُ} رعاية للأدب وإلا فالمرض والشفاء من الله عز وجل جميعًا.
ونظيره قول فتى موسى: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان} [الكهف: 63].
{والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} يريد البعث وكانوا ينسبون الموت إلى الأسباب؛ فبيّن أن الله هو الذي يميت ويحيي.
وكله بغير ياء: {يهدين} {يشفين} لأن الحذف في رءوس الآي حسن لتتفق كلها.
وقرأ ابن أبي إسحاق على جلالته ومحله من العربية هذه كلها بالياء؛ لأن الياء اسم وإنما دخلت النون لعلة.
فإن قيل: فهذه صفة تجمع الخلق فكيف جعلها إبراهيم دليلًا على هدايته ولم يهتد بها غيره؟ قيل: إنما ذكرها احتجاجا على وجوب الطاعة؛ لأن من أنعم وجب أن يطاع ولا يعصى ليلتزم غيره من الطاعة ما قد التزمها؛ وهذا إلزام صحيح.
قلت: وتجوّز بعض أهل الإرشارات في غوامض المعاني فعدل عن ظاهر ما ذكرناه إلى ما تدفعه بدائه العقول من أنه ليس المراد من إبراهيم.
فقال: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي يطعمني لذة الإيمان ويسقين حلاوة القبول.
ولهم في قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وجهان: أحدهما: إذا مرضت بمخالفته شفاني برحمته.
الثاني: إذا مرضت بمقاساة الخلق، شفاني بمشاهدة الحق.
وقال جعفر بن محمد الصادق: إذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة.
وتأولوا قوله: {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} على ثلاثة أوجه: فالذي يميتني بالمعاصي يحييني بالطاعات.
الثاني: يميتني بالخوف يحييني بالرجاء.
الثالث: يميتني بالطمع ويحييني بالقناعة.
وقول رابع: يميتني بالعدل ويحييني بالفضل.
وقول خامس: يميتني بالفراق ويحييني بالتلاق.
وقول سادس: يميتني بالجهل ويحييني بالعقل؛ إلى غير ذلك مما ليس يشيء منه مراد من الآية؛ فإن هذه التأويلات الغامضة، والأمور الباطنة، إنما تكون لمن حذق وعرف الحق، وأما من كان في عمى عن الحق ولا يعرف الحق فكيف ترمز له الأمور الباطنة، وتترك الأمور الظاهرة؟ هذا محال.
والله أعلم.
قوله تعالى: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} {أَطَمْعُ} أي أرجو.
وقيل: هو بمعنى اليقين في حقه، وبمعنى الرجاء في حق المؤمنين سواه.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق {خَطَايَايَ} وقال: ليست خطيئة واحدة.
قال النحاس: خطيئة بمعنى خطايا معروف في كلام العرب، وقد أجمعوا على التوحيد في قوله عز وجل: {فاعترفوا بِذَنبِهِمْ} [الملك: 11] ومعناه بذنوبهم.
وكذا {وَأَقِيمُواْ الصلاة} [البقرة: 43] معناه الصلوات، وكذا {خَطِيئَتِي} إن كانت خطايا.
والله أعلم.
قال مجاهد: يعني بخطيئته قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} [الأنبياء: 63] وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: إن سارة أخته.
زاد الحسن وقوله للكوكب: {هَذَا رَبِّي} وقد مضى بيان هذا مستوفى.
وقال الزجاج: الأنبياء بشر فيجوز أن تقع منهم الخطيئة؛ نعم لا تجوز عليهم الكبائر لأنهم معصومون عنها.
{يَوْمَ الدين} يوم الجزاء حيث يجازى العباد بأعمالهم.
وهذا من إبراهيم إظهار للعبودية وإن كان يعلم أنه مغفور له.
وفي صحيح مسلم عن عائشة؛ قلت يا رسول الله: ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: «لا ينفعه إنه لم يقل يومًا {رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّينِ}».
قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بالصالحين}.
{حُكْمًا} معرفة بك وبحدودك وأحكامك؛ قاله ابن عباس.
وقال مقاتل: فهمًا وعلمًا؛ وهو راجع إلى الأوّل.
وقال الكلبي: نبوّة ورسالة إلى الخلق.
{وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} أي بالنبيين من قبلي في الدرجة.
قال ابن عباس: بأهل الجنة؛ وهو تأكيد قوله: {هَبْ لِي حكمًا}.
قوله تعالى: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} قال ابن عباس: هو اجتماع الأمم عليه.
وقال مجاهد: هو الثناء الحسن.
قال ابن عطية: هو الثناء وخلد المكانة بإجماع المفسرين؛ وكذلك أجاب الله دعوته، وكل أمة تتمسك به وتعظمه، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال مكي: وقيل معناه سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق؛ فأجيبت الدعوة في محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عطية: وهذا معنى حسن إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ.
وقال القشيري: أراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة؛ فإن زيادة الثواب مطلوبة في حق كل أحد.
قلت: وقد فعل الله ذلك إذ ليس أحد يصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا وهو يصلي على إبراهيم وخاصة في الصلوات، وعلى المنابر التي هي أفضل الحالات وأفضل الدرجات.
والصلاة دعاء بالرحمة: والمراد باللسان القول، وأصله جارحة الكلام.
قال القتبي: وموضع اللسان موضع القول على الاستعارة، وقد تكني العرب بها عن الكلمة.
قال الأعشى:
إِنِّي أتَتْنِي لسانٌ لا أُسَرُّ بِها ** مِن عَلْوُ لا عجَبٌ منها ولا سَخَرُ

قال الجوهري: يروى مِن عَلو بضم الواو وفتحها وكسرها.
أي أتاني خبر من أعلى، والتأنيث للكلمة.
وكان قد أتاه خبر مقتل أخيه المنتشر.
روى أشهب عن مالك قال قال الله عز وجل: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحًا ويرى في عمل الصالحين، إذا قصد به وجه الله تعالى؛ وقد قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طه: 39] وقال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا} [مريم: 96] أي حبا في قلوب عباده وثناء حسنا، فنبّه تعالى بقوله: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل.
الليث بن سليمان: إذ هي الحياة الثانية.
قيل:
قد مات قومٌ وهُمْ في النّاس أحْيَاءُ

قال ابن العربي: قال المحققون من شيوخ الزهد في هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» الحديث وفي رواية إنه كذلك في الغرس والزرع وكذلك فيمن مات مرابطًا يكتب له عمله إلى يوم القيامة.
وقد بيناه في آخر آل عمران والحمد لله.
قوله تعالى: {واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم} دعاء بالجنة وبمن يرثها، وهو يرد قول بعضهم: لا أسأل جنة ولا نارًا.
قوله تعالى: {واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين} كان أبوه وعده في الظاهر أن يؤمن به فاستغفر له لهذا، فلما بان أنه لا يفي بما قال تبرأ منه.
وقد تقدّم هذا المعنى.
{إِنَّه كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} أي المشركين.
{وكان} زائدة.
{وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أي لا تفضحني على رءوس الأشهاد، أو لا تعذبني يوم القيامة.
وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة» والغبرة هي القترة.
وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم أباه فيقول يا رب إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين» انفرد بهما البخاري رحمه الله.
قوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} {يَوْمَ} بدل من {يوم} الأوّل.
أي يوم لا ينفع مال ولا بنون أحدًا.
والمراد بقوله: {وَلاَ بَنُونَ} الأعوان؛ لأن الابن إذا لم ينفع فغيره متى ينفع؟ وقيل: ذكر البنين لأنه جرى ذكر والد إبراهيم، أي لم ينفعه إبراهيم.
{إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} هو استثناء من الكافرين؛ أي لا ينفعه ماله ولا بنوه.
وقيل: هو استثناء من غير الجنس، أي لكن {مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ينفعه لسلامة قلبه.